فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذكِّر المؤمنين بالوقائع السابقة التي ارتكبها المنافقون والكفار تجاه الإسلام والمسلمين من: مؤامرات على الإسلام، ومحاولات للإيقاع بين المسلمين؛ والتآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} له صلى الله عليه وسلم دليل على تلك الوقائع السابقة. أما قوله تعالى: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور}. فالتقليب: هو جعل أسفل الشيء عاليه، وعاليه أسفله؛ حتى لا يستتر منه شيء. وهذا مظهر الفاكهة مُنْتقىً بعناية، فإذا اشتريتَ منه ملأ لك الكيس من الصنف الرديء الذي أخفاه أسفل القفص. وهكذا يأتي لك بالأسفل أو بالشيء الرديء المكشوف عورته. والذي لا يمكن أن تشتريه لو رأيته ويضعه لك.
وهكذا يفعل المنافقون حين يُقلِّبون الأمر على الوجوه المختلفة حتى يصادفوا ما يعطيهم أكبر الشر للمؤمنين دون أن يصابوا هم بشيء. والمثال الواضح: عندما تآمرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا من كل قبيلة بشاب ليضربوه ضرب رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل.
لكن الحق سبحانه يأتي إلى كل هذه الفتن ويجعلها لصالح المؤمنين، ولذلك يقول جل جلاله: {حتى جَاءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ} فالتآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة قتله جعل الأمور تؤدي إلى هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة وخروجه منها مما جعله الله سبحانه وتعالى سببًا في إظهار الحق وانتشار الإسلام؛ لأن الله لا يرسل رسولًا ثم يخذله، فما دام قد أرسل رسولًا فلابد أن ينصره، فأريحوا أنفسكم، ولا تبغوا الفتنة؛ لأن السابق من الفتن انقلب عليكم وأدَّى إلى خير كثير للمؤمنين.
وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
وقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} وهو قضية كونية عقدية، فإذا رأيتَ قومًا مؤمنين التحموا بقتال قَوم كافرين وانهزموا، فاعلم أنهم ليسوا من جنود الله حقّا، وأن شرطًا من شروط الجندية لله قد اختل. ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا أولًا.
فمثلًا في غزو أُحد، عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة ألا يتركوا أماكنهم فخالفوه، هنا اختل شرط من شروط الجندية لله وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فماذا كان يحدث للإسلام لو أن هؤلاء الرماة خالفوا رسول الله وانتصروا؟ لو حدث ذلك لَهانَتْ أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين.
ويوم حنين، حين اعتقد المؤمنون أنهم سينتصرون بكثرتهم وليس بإيمانهم، وكانت النتيجة أن أصيبوا بهزيمة قاسية أول المعركة؛ لتكون لهم درسًا إيمانيًا. ولذلك رأيت إيمانًا انهزم أمام كفر، فاعلم أن شرطًا من شروط الجندية الإيمانية قد اختل.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 146-147].
إذن: فأول شيء فعله هؤلاء المقاتلون؛ أنهم عرفوا أن الذنوب يمكن أن تأتي إليهم بالهزيمة، فاستغفروا الله وتابوا إليه وحاربوا فنصرهم الله، وإذا حدث لهم ولم ينتصر المؤمنون؛ فمعنى هذا أن هناك خللًا في إيمانهم؛ لأن الله لا يترك قضية قرآنية لتأتي حادثة كونية فتكذبها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم} قال: خروجهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فثبطهم} قال: حبسهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا} قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك، سأل الله عنها نبيه والمؤمنين فقال: ما يحزنكم {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا} يقول: جمع لكم وفعل وفعل يخذلونكم.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ولأوضعوا خلالكم} قال: لأسرعوا بينكم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {ولأوضعوا خلالكم} قال: لارفضوا {يبغونكم الفتنة} قال: يبطئنكم عبدالله بن نبتل، وعبدالله بن أبي ابن سلول، ورفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي {وفيكم سماعون لهم} قال: محدثون بأحاديثهم غير منافقين، هم عيون للمنافقين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {وفيكم سماعون لهم} قال: مبلغون.
وأخرج ابن إسحق وابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد بن تابوت، من عظماء المنافقين وكانوا ممن يكيد الإِسلام وأهله، وفيهم أنزل الله تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور} إلى آخر الآية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
قوله تعالى: {مَّن يَقُولُ ائذن}: كقوله: {يَاصَالِحُ ائتنا} [الأعراف: 77] من أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واوًا لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةُ من كلمةٍ أخرى.
وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت دَرْجًا.
قال أبو جعفر. إذا دخلت الواو والفاء على {ائذن} فهجاؤها ألفٌ وذال ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون. والفرقُ أنَّ ثم يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما.
قلت: يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجًا، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب فَأْذَنْ، وَأْذَنْ، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ الهمزة التي هي فاءُ الكلمة. وإذا دخلت عليها ثم كُتِبَتْ كذا: {ثُمَّ ائتوا}، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة. قلت: وكأنَّ هذا الحكمَ الذي ذَكره مع ثم يختصُّ بهذه اللفظة، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة همزة وصلِه خَطًّا فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع ثم هكذا: ثم أْتُوا وكان القياسُ على ثمَّ ائْذَنْ ثم ائتوا وفيه نظر.
وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه ابن مجاهد: {ولا تُفْتِينِّي} بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعيًا.
قال أبو حاتم: هي لغة تميم.
وقيل: أفتنه: أدخله فيها. وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال:
لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتنتْ ** سعيدًا فأمسى قد قلا كلَّ مسلم

ومتعلق الإِذن القعود، أي: ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
إنَّهم وإِنْ أظهروا وِفاقَكم فقد استبطنوا نِفاقكم؛ أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيْدِهم تشويشَ أموركم، حتى كَشَفَ اللهُ عوراتِهم، وفَضَحَهم، حتى تَحَذَّرْتم منهم بما تحققتم من أسرارهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (49):

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أجملهم في هذا الحكم، وكان قد أشار إلى أن منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه، شرع يفصلهم، وبدأ المفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفًا على {لقد ابتغوا}: {ومنهم من يقول} أي في جبلته تجديد هذا القول من غير احتشام {ائذن لي} أي في التخلف عنك {ولا تفتني} أي تكن سببًا في فتنتى بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحًا بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فأنه لا صبر لي عن النساء، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس، كان من الأنصار منافقًا.
ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فإذا هم قد ارتكبوا فيه، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل: {ألا في الفتنة سقطوا} أي بما قالوا وفعلوا، فصارت ظرفًا لهم فوضعوا أنفسهم بذلك في جهنم، وفي التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشابًا سريعًا بقوة فصار يعسر خلاصهم معه {وإن جهنم لمحيطة} أي بسبب إحاطة الفتنة- التي أسقطوا أنفسهم فيها- بهم، وإنما قال: {بالكافرين} تعميمًا وتنبيهًا على الوصف الذي حملهم على ذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّى} يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج، وذكروا فيه وجوها: الأول: لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم، وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية، وإن يكونوا أيضًا ذكروه على سبيل الجد، وإن كان ذلك المنافق منافقًا كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقًا، وإن كان غير قاطع بذلك.
والثاني: لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها.
والثالث: لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي.
والرابع: قال الجد بن قيس: قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر، يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني، وقرئ {وَلاَ تَفْتِنّى} من أفتنه {أَلا في الفتنة سَقَطُواْ} والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة، وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف.
وأيضًا فهم يبقون خالفين عن المسلمين، خائفين من أن يفضحهم الله، وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي {سُقِطَ} لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى.
قال أهل المعاني: وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} قيل: إنها تحيط بهم يوم القيامة.
وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها.
وقال الحكماء الإسلاميون: إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالًا وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه، ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين.
وقصد الرسول بكل سوء، وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدًا في الترقي والاستعلاء والتزايد، وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم، وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية، فكانوا في أشد الخوف، بسبب الأحوال العاجلة، والخوف الشديد مع الجهل الشديد، أعظم أنواع العقوبات الروحانية، فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}. اهـ.